العمال المهاجرون في كوريا الجنوبية.. من الأمل في الرزق إلى القيود والانتهاكات

العمال المهاجرون في كوريا الجنوبية.. من الأمل في الرزق إلى القيود والانتهاكات
عمال مهاجرون في كوريا الجنوبية

في مقطع فيديو انتشر على نطاق واسع الأسبوع الماضي، يظهر عامل مهاجر في الثلاثينيات من عمره، من سريلانكا، مُقيّدًا بطوب بلاستيكي، بينما يرفعه زميل كوري على رافعة شوكية أمام أنظار عمال آخرين، وقع المشهد الذي بدا أقرب إلى لقطة مأساوية من فيلم درامي، بالفعل في مصنع للطوب في ناجو، مقاطعة جولا الجنوبية، في كوريا الجنوبية، الدولة التي تُقدّم نفسها بوصفها نموذجًا عالميًا للديمقراطية وحقوق الإنسان.

أثار الفيديو موجة غضب داخل كوريا وخارجها، ودفع الرئيس الكوري لي جاي ميونغ إلى إصدار بيان شديد اللهجة وصف فيه ما حدث بأنه انتهاك صارخ لحقوق الإنسان، وتعهد باتخاذ إجراءات عاجلة لضمان حماية الفئات الأضعف وفق صحيفة "كوريا تايمز".

وخلف هذا الحادث المفزع تختفي أزمة أعمق تعود جذورها إلى سياسات العمل والهجرة في كوريا، وتكشف تقارير حقوقية وإنسانية عن منظومة متشابكة من التمييز والاستغلال والعنف النفسي والجسدي بحق العمال المهاجرين.

أزمة متجذرة في نظام العمل

يأتي إلى كوريا الجنوبية سنويًا عشرات الآلاف من العمال الأجانب –يُقدَّر عددهم بنحو 280 ألف عامل حتى نهاية 2024– بموجب نظام تصاريح العمالة الذي وضعته الحكومة عام 2004، لتغطية النقص في الوظائف منخفضة الأجر بقطاعات مثل الزراعة، والبناء، والتصنيع، وهذا النظام، وفقًا لتقرير منظمة العفو الدولية لعام 2023، يمنح أصحاب العمل سلطة شبه مطلقة، إذ يربط إقامة العامل بمكان عمل محدّد، ما يجعل الانتقال إلى صاحب عمل آخر شبه مستحيل إلا في ظروف استثنائية.

وتؤكد تقارير منظمات كورية مثل شبكة حقوق العمال المهاجرين في غوانغجو جيونام أنّ هذه السياسة تخلق بيئة خصبة لانتهاكات واسعة النطاق: من التأخير المتكرر للأجور، إلى السكن غير اللائق، وانتهاءً بالعنف اللفظي والجسدي، وقد وثقت هذه الشبكة وحدها خلال عام 2023 أكثر من 600 حالة شكاوى متعلقة بتحرش وظيفي، وعنف في مكان العمل، واستغلال جنسي.

عامل مربوط في إحدى الرافعات بكوريا الجنوبية

شهادات صادمة

المنظمة نفسها وصفت حادثة العامل السريلانكي بأنها صورة مكثفة لواقع مظلم يعانيه آلاف العمال الأجانب في كوريا الجنوبية، حيث يُنظر إليهم كأدوات للإنتاج لا كبشر، وفي شهادات مباشرة جمعتها مؤسسات حقوقية، قال بعض العمال إنهم يُجبرون على العمل لساعات طويلة تتجاوز ما ينص عليه القانون، أحيانًا في ظروف خطرة دون تدريب كافٍ، ودون وسائل حماية.

عامل في مصنع للنسيج من نيبال تحدث لإحدى الصحف المحلية قائلاً: "أعمل 12 ساعة يوميًا. في الشتاء، المصنع بارد حتى التجمد، وفي الصيف الحرارة خانقة، إذا طلبت إجازة مرضية، يهددني المدير بإبلاغ الهجرة.

وهذه الشهادة تتقاطع مع نتائج تقرير أصدرته هيومن رايتس ووتش في مطلع 2024، والذي أكد أنّ 70% من العمال المهاجرين الذين شملهم الاستطلاع تعرضوا لشكل من أشكال سوء المعاملة أو التمييز.

الخوف من التبليغ

تُظهر دراسات حديثة أنّ الغالبية العظمى من العمال المهاجرين يمتنعون عن الإبلاغ عن الانتهاكات خوفًا من فقدان وظائفهم أو ترحيلهم، وأوضح تقرير صادر عن اللجنة الوطنية الكورية لحقوق الإنسان في 2023 أوضح أنّ العمال المهاجرين الذين يبلّغون عن انتهاكات نادرًا ما يحصلون على إنصاف فعلي، بل غالبًا يُعاقَبون بإنهاء عقودهم أو طردهم.

ويفاقم الوضع ضعف الإلمام باللغة الكورية، والجهل بالقوانين المحلية، والعزلة الاجتماعية التي يعيشها هؤلاء العمال، إذ غالبًا ما يسكنون في مجمعات مغلقة قرب المصانع أو المزارع، بعيدًا عن المجتمع المحلي.

وكتب الرئيس لي جاي ميونغ على فيسبوك بعد مشاهدة الفيديو: "من غير المعقول أن تقع حادثة كهذه في بلد يُعرف بأنه قوة ثقافية عالمية ونموذج للديمقراطية" وطالب وزارة العمل بإجراء تحقيق شامل واتخاذ إجراءات عاجلة لمنع تكرار مثل هذه الجرائم.

وبالفعل، أعلنت الوزارة فتح تفتيش في المصنع المعني، مع وعود بتشديد الرقابة على أماكن العمل التي توظف عمالًا أجانب، وقال وزير العمل كيم يونغ هون إن الحكومة ستتخذ إجراءات حازمة ضد أي انتهاكات، لكن نشطاء يرون أن هذه الإجراءات، رغم أهميتها، لا تكفي لمعالجة جذور المشكلة المتمثلة في نظام العمالة المقيد والسياسات التمييزية.

بين الاقتصاد والانفتاح الثقافي

منذ سبعينيات القرن الماضي، اعتمدت كوريا الجنوبية بشكل متزايد على العمالة الأجنبية الرخيصة لدعم صناعاتها، خصوصًا بعد الطفرة الاقتصادية، لكن بينما نجحت البلاد في بناء صورة خارجية لامعة كقوة تكنولوجية وثقافية عالمية، ظل ملف حقوق العمال المهاجرين من الملفات المسكوت عنها.

في عام 2014، أدانت المحكمة العليا الكورية حالات فصل تعسفي لعمال أجانب، معتبرة ذلك انتهاكًا للدستور، لكن هذه الأحكام بقيت محدودة التأثير عمليًا بسبب استمرار بنية النظام المعمول به الذي يُقيّد حرية انتقال العمال.

وفقًا للجنة الوطنية لحقوق الإنسان في كوريا الجنوبية يوجد نحو 49% من العمال المهاجرين تعرضوا للإهانات أو التمييز اللفظي، كما أبلغ أكثر من 30% عن تأخير دفع أجورهم، وفي 2023، لقي 18 عاملًا أجنبيًا مصرعهم نتيجة حوادث صناعية، أغلبها بسبب غياب تدابير السلامة الكافية.

تشير تقديرات وزارة العمل إلى أن عدد العمال الأجانب في كوريا سيصل إلى نحو 300 ألف بحلول نهاية 2025.

ما الذي يجب فعله؟

تدعو منظمات حقوقية –بينها منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش– إلى إصلاح جذري لنظام العمالة في كوريا الجنوبية، بما يشمل السماح بحرية تغيير مكان العمل، وإنشاء آلية مستقلة لاستقبال الشكاوى، وتوفير حماية قانونية متقدمة للعمال الأجانب.

وتطالب هذه المنظمات بزيادة برامج التوعية القانونية، وتحسين ظروف السكن، وضمان الترجمة الفورية والخدمات القانونية المجانية للعمال الأجانب.

حادثة العامل السريلانكي ليست مجرد استثناء، بل جرس إنذار يكشف واقعًا مريرًا يعيشه آلاف العمال المهاجرين في كوريا الجنوبية، بعيدًا عن الأضواء، وبينما تستعد الحكومة لإجراءات جديدة، تبقى مسؤولية الإعلام والمجتمع المدني والمجتمع الدولي هي إلقاء الضوء المستمر على هذه الانتهاكات حتى لا يُصبح الضحايا مجرّد أرقام في تقارير سنوية.

 



موضوعات ذات صلة


ابق على اتصال

احصل على النشرة الإخبارية